فصل: سئل عن إمام مسجدين‏‏ هل يجوز الاقتداء به أم لا ‏؟‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عن الصلاة خلف المرازقة، وعن بدعتهم‏.‏

فأجاب‏:‏

يجوز للرجل أن يصلي الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة، ولا فسقا، باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين‏.‏ وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه، فيقول‏:‏ ماذا تعتقد ‏؟‏ بل يصلي خلف مستور الحال‏.‏

ولو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو مبتدع، ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد، ومالك‏.‏ ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة الصحة‏.‏

وقول القائل‏:‏ لا أسلم مالي إلا لمن أعرف‏.‏ ومراده لا أصلى خلف من لا أعرفه، كما لا أسلم مالي إلا لمن أعرفه، كلام جاهل لم يقله أحد من أئمة الإسلام‏.‏ فإن المال إذا أودعه الرجل المجهول، فقد يخونه / فيه، وقد يضيعه‏.‏ وأما الإمام، فلو أخطأ أو نسي، لم يؤاخذ بذلك المأموم، كما في البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أئمتكم يصلون لكم ولهم‏.‏ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن اخطؤوا فلكم وعليهم‏)‏‏.‏ فجعل خطأ الإمام على نفسه دونهم، وقد صلى عمر وغيره من الصحابة ـ رضي اللّه عنهم ـ وهو جنب ناسياً للجنابة ـ فأعاد ولم يأمر المأمومين بالإعادة، وهذا مذهب جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه‏.‏

وكذلك لو فعل الإمام ما يسوغ عنده، وهو عند المأموم يبطل الصلاة، مثل أن يفتصد ويصلي ولا يتوضأ، أو يمس ذكره، أو يترك البسملة، وهو يعتقد أن صلاته تصح مع ذلك، والمأموم يعتقد أنها لا تصح مع ذلك، فجمهور العلماء على صحة صلاة المأموم، كما هو مذهب مالك وأحمد في أظهر الروايتين، بل في أنصهما عنه، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، اختاره القَفَّال وغيره‏.‏

ولو قدر أن الإمام صلى بلا وضوء متعمداً، والمأموم لم يعلم حتي مات المأموم، لم يطالب اللّه المأموم بذلك، ولم يكن عليه إثم باتفاق المسلمين، بخلاف ما إذا علم أنه يصلي بلا وضوء، فليس له أن يصلي خلفه، فإن هذا ليس بمصل؛ بل لاعب، ولو علم بعد الصلاة أنه صلى بلا وضوء، ففي الإعادة نزاع‏.‏ ولو علم المأموم أن الإمام / مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم‏.‏

ولهذا قالوا في العقائد‏:‏ إنه يصلي الجمعة والعيد خلف كل إمام براً كان أو فاجراً‏.‏ وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا إمام واحد، فإنها تصلى خلفه الجماعات، فإن الصلاة في جماعة خير من صلاة الرجل وحده، وإن كان الإمام فاسقا‏.‏ هذا مذهب جماهير العلماء‏:‏ أحمد بن حنبل، والشافعي، وغيرهما، بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب أحمد‏.‏ ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر، فهو مبتدع عند الإمام أحمد، وغيره، من أئمة السنة‏.‏ كما ذكره في رسالة عبدوس‏.‏ وابن مالك، والعطار‏.‏

والصحيح أنه يصليها، ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة، وكان يشرب الخمر حتي أنه صلى بهم مرة الصبح أربعا ثم قال‏:‏ أزيدكم‏؟‏ فقال ابن مسعود‏:‏ ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة‏!‏ ولهذا رفعوه إلى عثمان‏.‏ وفي صحيح البخاري أن عثمان ـ رضي اللّه عنه ـ / لما حُصِر، صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان، فقال‏:‏ إنك إمام عامة، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة‏.‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا، فاجتنب إساءتهم‏.‏ ومثل هذا كثير‏.‏

والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة‏.‏ فإذا صلى المأموم خلفه، لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجوراً لا يرتب إماما للمسلمين، فإنه يستحق التعزير حتي يتوب، فإذا أمكن هجره حتي يتوب، كان حسنا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك حتي يتوب، أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه‏.‏ فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه، كان فيه مصلحة، ولم يفت المأموم جمعة، ولا جماعة‏.‏ وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة ـ رضي اللّه عنهم‏.‏

وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة، فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل، وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق، أو بدعة، تظهر مخالفتها للكتاب والسنة، كبدعة الرافضة، والجهمية، /ونحوهم‏.‏ ومن أنكر مذهب الروافض وهو لا يصلي الجمعة والجماعة، بل يكفر المسلمين، فقد وقع في مثل مذهب الروافض، فإن من أعظم ما أنكره أهل السنة عليهم، تركهم الجمعة والجماعة، وتكفير الجمهور‏.‏

 فصل

وأما الصلاة خلف المبتدع، فهذه المسألة فيها نزاع، وتفصيل‏.‏ فإذا لم تجد إماما غيره كالجمعة التي لا تقام إلا بمكان واحد، وكالعيدين وكصلوات الحج، خلف إمام الموسم، فهذه تفعل خلف كل بر وفاجر باتفاق أهل السنة والجماعة، وإنما تدع مثل هذه الصلوات خلف الأئمة أهل البدع كالرافضة ونحوهم، ممن لا يري الجمعة والجماعة إذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد، فصلاته في الجماعة خلف الفاجر خير من صلاته في بيته منفرداً؛ لئلا يفضي إلى ترك الجماعة مطلقاً‏.‏

وأما إذا أمكنه أن يصلي خلف غير المبتدع، فهو أحسن، وأفضل بلا ريب‏.‏ لكن إن صلى خلفه، ففي صلاته نزاع بين العلماء‏.‏ ومذهب الشافعي، وأبي حنيفة‏:‏ تصح صلاته‏.‏ وأما مالك وأحمد‏:‏ ففي مذهبهما نزاع وتفصيل‏.‏

/وهذا إنما هو في البدعة التي يعلم أنها تخالف الكتاب والسنة، مثل بدع الرافضة والجهمية، ونحوهم‏.‏ فأما مسائل الدين التي يتنازع فيها كثير من الناس في هذه البلاد، مثل مسألة الحرف، والصوت، ونحوها، فقد يكون كل من المتنازعين مبتدعا، وكلاهما جاهل متأول، فليس امتناع هذا من الصلاة خلف هذا بأولي من العكس‏.‏ فأما إذا ظهرت السنة وعلمت، فخالفها واحد، فهذا هو الذي فيه النزاع، واللّه أعلم‏.‏ والحمد للّه رب العالمين‏.‏ وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه وسلم‏.‏

 وسئل عن رجل استفاض عنه أنه يأكل الحشيشة، وهو إمام‏.‏ فقال رجل‏:‏ لا تجوز الصلاة خلفه‏.‏ فأنكر عليه رجل وقال‏:‏ تجوز، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تجوز الصلاة خلف البر والفاجر‏)‏‏.‏ فهذا الذي أنكر، مصيب أم مخطئ ‏؟‏ وهل يجوز لآكل الحشيشة أن يؤم بالناس‏؟‏ وإذا كان المنكر مصيباً، فما يجب على الذي قام عليه ‏؟‏ وهل يجوز للناظر في المكان أن يعزله أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يجوز أن يولي في الإمامة بالناس من يأكل الحشيشة، أو يفعل من المنكرات المحرمة، مع إمكان تولية من هو خير منه‏.‏/ كيف وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من قلد رجلا عملا على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة من هو أرضي للّه،فقد خان اللّه،وخان رسوله،وخان المؤمنين‏)‏‏.‏

وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين اللّه‏)‏‏.‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏إذا أم الرجل القوم، وفيهم من هو خير منه، لم يزالوا في سَفَال‏)‏‏.‏ وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللّه‏.‏ فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة‏.‏ فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً‏)‏‏.‏ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم الأفضل بالعلم بالكتاب‏.‏ ثم بالسنة، ثم الأسبق إلى العمل الصالح بنفسه، ثم بفعل اللّه تعالى‏.‏

وفي سـنن أبي داود وغـيره‏:‏ أن رجـلا من الأنصـار كان يصلي بقوم إماما، فبصـق في القبلة فأمرهـم النبـي صلى الله عليه وسلم أن يعزلـوه عن الإمامـة، ولا يصلـوا خلفه‏.‏ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله‏:‏ هل أمرهم بعزله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم، إنك آذيت اللّه ورسوله‏)‏‏.‏ فإذا كان المرء يعزل لأجل إساءته في الصلاة، وبصاقه في القبلة، فكيف المصر على أكل الحشيشة، لاسيما إن كان مستحلا للمسكر منها‏.‏ كما عليه طائفة من الناس‏.‏ فإن مثل هذا ينبغي أن يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل؛ إذ السكر منها حرام بالإجماع، واستحلال ذلك كفر بلا نزاع‏.‏

/وأما احتجاج المعارض بقوله‏:‏ ‏(‏تجوز الصلاة خلف كل بر وفاجر‏)‏، فهذا غلط منه لوجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل في سنن ابن ماجه عنه‏:‏ ‏(‏لا يؤمَّن فاجر مؤمناً إلا أن يقهره بسوط أو عصا‏)‏‏.‏ وفي إسناد الآخر مقال ـ أيضاً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يجوز للمأموم أن يصلي خلف من ولي، وإن كان تولية ذلك المولي لا تجوز، فليس للناس أن يولوا عليهم الفساق، وإن كان قد ينفذ حكمه، أو تصح الصلاة خلفه‏.‏

الثالث‏:‏ أن الأئمة متفقون على كراهة الصلاة خلف الفاسق، لكن اختلفوا في صحتها‏:‏ فقيل‏:‏ لا تصح‏.‏ كقول مالك، وأحمد في إحدي الروايتين عنهما‏.‏ وقيل‏:‏ بل تصح‏.‏ كقول أبي حنيفة، والشافعي، والرواية الأخري عنهما، ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته‏.‏

الرابع‏:‏ أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الإنكار على هؤلاء الفساق، الذين يسكرون من الحشيشة بل الذي عليه جمهور الأئمة أن قليلها وكثيرها حرام، بل الصواب أن آكلها يحَد، وأنها نجسة‏.‏ فإذا كان آكلها لم يغسل منها فمه، كانت صلاته باطلة، ولو غسل فمه / منها ـ أيضاً ـ فهي خمر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من شرب الخمر لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً، فإن تاب، تاب اللّه عليه، فإن عاد فشربها، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب اللّه عليه‏.‏ فإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة ـ كان حقاً على اللّه أن يسقيه من طينة الخبال‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول اللّه، وما طينة الخبال‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عصارة أهل النار‏)‏‏.‏ وإذا كانت صلاته تارة باطلة وتارة غير مقبولة، فإنه يجب الإنكار عليه باتفاق المسلمين‏.‏ فمن لم ينكر عليه، كان عاصياً للّه ورسوله‏.‏

ومـن منع المنكر عليه، فقد حاد اللّه ورسوله، ففي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من حالت شفاعته دون حد من حدود اللّه، فقد ضاد اللّه في أمره، ومن قال في مؤمن مـا ليس فيـه، حبس في رَدْغَة الخبال حتي يخرج مما قـال، ومـن خاصـم في باطل وهو يعـلم، لم يزل في سخط اللّه حتي ينزع‏)‏‏.‏ فالمخاصمون عنـه، مخاصمون في باطـل، وهم في سخط اللّه‏.‏ والحائلون دون ذلك الإنكار عليه، مضادون للّه في أمره، وكل مـن علـم حـالـه ولم ينكـر عليـه بحسـب قـدرتـه، فهو عاص للّه ورسوله‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عن خطيب قد حضر صلاة الجمعة، فامتنعوا عن الصلاة خلفه؛ لأجل بدعة فيه، فما هي البدعة التي تمنع الصلاة خلفه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

ليس لهم أن يمنعوا أحداً من صلاة العيد والجمعة، وإن كان الإمام فاسقاً‏.‏ وكذلك ليس لهم ترك الجمعة ونحوها لأجل فسق الإمام، بل عليهم فعل ذلك خلف الإمام، وإن كان فاسقاً، وإن عطلوها لأجل فسق الإمام، كانوا من أهل البدع، وهذا مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏

وإنما تنازع العلماء في الإمام إذا كان فاسقاً، أو مبتدعا، وأمكن أن يصلي خلف عدل‏.‏ فقيل‏:‏ تصح الصلاة خلفه، وإن كان فاسقاً‏.‏ وهذا مذهب الشافعي وأحمد في إحدي الروايتين وأبي حنيفة‏.‏ وقيل‏:‏ لا تصح خلف الفاسق، إذا أمكن الصلاة خلف العدل، وهو إحدي الروايتين عن مالك وأحمد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عن إمام يقول يوم الجمعة على المنبر في خطبته‏:‏ إن اللّه تكلم بكلام أزلي قديم‏.‏ ليس بحرف، ولا صوت، فهل تسقط الجمعة خلفه أم لا ‏؟‏ وما يجب عليه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام اللّه منزل غير مخلوق‏.‏ وأن هذا القرآن الذي يقرأه الناس هو كلام اللّه، يقرأه الناس بأصواتهم‏.‏ فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القاري، والقرآن جميعه كلام اللّه حروفه ومعانيه‏.‏

وإذا كان الإمام مبتدعا، فإنه يصلي خلفه الجمعة، وتسقط بذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن إمام قتل ابن عمه‏:‏ فهل تصح الصلاة خلفه، أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان هذا الرجل قد قتل مسلماً متعمداً بغير حق،/ فينبغي أن يعزل عن الإمامة، ولا يصلي خلفه إلا لضرورة، مثل ألا يكون هناك إمام غيره، لكن إذا تاب وأصلح، فإن اللّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات‏.‏ فإذا تاب التوبة الشرعية، جاز أن يقر على إمامته‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ أيضًا ـ عن إمام مسجد قتل‏:‏ فهل يجوز أن يصلي خلفه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان قد قتل القاتل أولا، ثم عمدوا أقارب المقتول إلى أقارب القاتل فقتلوهم، فهؤلاء عداة من أظلم الناس، وفيهم نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏؛ ولهذا قالت طائفة من السلف‏:‏ إن هؤلاء القاتلين يقتلهم السلطان حداً، ولا يعفي عنهم‏.‏ وجمهور العلماء يجعلون أمرهم إلى أولياء المقتول‏.‏ ومن كان من الخطباء يدخل في مثل هذه الدماء، فإنه من أهل البغي والعدوان، الذين يتعين عزلهم، ولا يصلح أن يكون إماماً للمسلمين، بل يكون إماماً للظالمين المعتدين‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن إمام المسلمين خبب امرأة على زوجها حتي فارقته، وصار يخلو بها، فهل يصلى خلفه‏؟‏ وما حكمه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

في المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ليس منا من خبب امرأة على زوجها، أو عبداً على مواليه‏)‏‏.‏ فسعي الرجل في التفريق بين المرأة وزوجها من الذنوب الشديدة، وهو من فعل السحرة، وهو من أعظم فعل الشياطين‏.‏ لا سيما إذا كان يخببها على زوجها ليتزوجها هو مع إصراره على الخلوة بها، ولا سيما إذا دلت القرائن على غير ذلك‏.‏ ومثل هذا لا ينبغي أن يولي إمامة المسلمين، إلا أن يتوب‏.‏ فإن تاب، تاب اللّه عليه‏.‏ فإذا أمكن الصلاة خلف عدل مستقيم السيرة، فينبغي أن يصلي خلفه، فلا يصلي خلف من ظهر فجوره لغير حاجة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن إمام يقرأ على الجنائز‏:‏ هل تصح الصلاة خلفه‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أمكنه أن يصلى خلف من يصلي صلاة كاملة، وهو من أهل الورع، فالصلاة خلفه أولي من الصلاة خلف من يقرأ على الجنائز‏.‏ فإن هذا مكروه من وجهين‏:‏ من وجه أن القراءة على الجنائز مكروهة في المذاهب الأربعة‏.‏ وأخذ الأجرة عليها أعظم كراهة‏.‏ فإن الاستئجار على التلاوة لم يرخص فيه أحد من العلماء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن إمام يبصق في المحراب هل تجوز الصلاة خلفه أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، ينبغي أن ينهي عن ذلك‏.‏ وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه عزل إماماً لأجل بصاقه في القبلة‏.‏ وقال لأهل المسجد‏:‏ لا تصلوا خلفه، فجاء إلى النبي / صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يارسول اللّه‏؟‏، أنت نهيتهم أن يصلوا خلفي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم، إنك قد آذيت اللّه ورسوله‏)‏‏.‏ فإن عزل عن الإمامة لأجل ذلك، أو انتهي الجماعة أن يصلوا خلفه؛ لأجل ذلك كان ذلك سائغاً‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن رجل فقيه عالم خاتم للقرآن، وبه عذر‏:‏ يده الشمال خلفه من حد الكتف‏.‏ وله أصابع لحم، وقد قالوا‏:‏ إن الصلاة غير جائزة خلفه‏.‏

فأجاب‏:‏

إذا كانت يداه يصلان إلى الأرض في السجود، فإنه تجوز الصلاة خلفه بلا نزاع‏.‏ وإنما النزاع فيما إذا كان أقطع اليدين والرجلين، ونحو ذلك‏.‏ وأما إذا أمكنه السجود على الأعضاء السبعة، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أسجد على سبعة أعظم‏:‏ الجبهة، واليدين‏.‏ والركبتين والقدمين‏)‏، فإن السجود تام، وصلاة من خلفه تامة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى ـ عن الخصي هل تصح الصلاة خلفه‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمـد للّه، تصح خلفه‏.‏ كما تصح خلف الفحل، باتفاق أئمة المسلمين، وهو أحق بالإمامة ممن هو دونه‏.‏ فإذا كان أفضل من غيره في العلم والدين، كان مقدماً عليه في الإمامة، وإن كان المفضول فحلا، واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ عن رجل ما عنده ما يكفيه، وهو يصلي بالأجرة، فهل يجوز ذلك أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الاستئجار على الإمامة لا يجوز في المشهور من مذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز، وهو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد، وقول في مذهب مالك‏.‏ والخلاف في الأذان ـ أيضاً‏.‏

/لكن المشهور من مذهب مالك‏:‏ أن الاستئجار يجوز على الأذان، وعلي الإمامة معه ومنفردة، وفي الاستئجار على هذا ونحوه، كالتعليم على قول ثالث في مذهب أحمد، وغيره‏:‏ أنه يجوز مع الحاجة، ولا يجوز بدون حاجة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل معرف على المراكب، وبنى مسجداً، وجعل للإمام في كل شهر أجرة من عنده، فهل هو حلال أم حرام‏؟‏ وهل تجوز الصلاة في المسجد أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له، جاز أخذها، وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 

وسئل عن رجل إمام بلد وليس هو من أهل العدالة، وفي البلد رجل آخر يكره الصلاة خلفه، فهل تصح صلاته خلفه أم لا ‏؟‏ وإذا لم يصل / خلفه، وترك الصلاة مع الجماعة، هل يأثم بذلك‏؟‏ والذي يكره الصلاة خلفه، يعتقد أنه لا يصحح الفاتحة، وفي البلد من هو أقرأ منه، وأفقه‏.‏

فأجاب ـ رحمه اللّه ‏:‏

الحمد للّه، أما كونه لا يصحح الفاتحة، فهذا بعيد جداً، فإن عامة الخلق من العامة والخاصة يقرؤون الفاتحة قراءة تجزئ بها الصلاة، فإن اللحن الخفي، واللحن الذي لا يحيل المعني لا يبطل الصلاة، وفي الفاتحة قراءات كثيرة قد قرئ بها‏.‏ فلو قرأ ‏{‏عليهِمْ‏}‏، و‏{‏عليهُمْ‏}‏، ‏{‏عليهُمُ‏}‏‏.‏ أو قرأ‏:‏ ‏{‏الصراط‏}‏، و‏{‏السراط‏}‏، و‏{‏الزراط‏}‏، فهذه قراءات مشهورة‏.‏

ولو قرأ‏:‏ ‏{‏الحمدُ للّه‏}‏، و‏{‏الحمدُ لُلَّه‏}‏، أو قرأ ‏{‏ربُّ العالمين‏}‏ أو ‏{‏ربَّ العالمين‏}‏‏.‏ أو قرأ بالكسر، ونحو ذلك، لكانت قراءات قد قرئ بها‏.‏ وتصح الصلاة خلف من قرأ بها‏.‏ ولو قرأ‏:‏ ‏{‏ربُ العالمين‏}‏ بالضم، أو قرأ‏:‏ ‏{‏مالكَ يوم الدين‏}‏ بالفتح، لكان هذا لحناً لا يحيل المعني، ولا يبطل الصلاة‏.‏

وإن كان إماماً راتباً وفي البلد من هو أقرأ منه، صلى خلفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا يؤُمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه‏)‏‏.‏ وإن كان متظاهراً بالفسق، وليس هناك من يقيم الجماعة غيره صلى / خلفه ـ أيضاً ـ ولم يترك الجماعة، وإن تركها، فهو آثم، مخالف للكتاب والسنة، ولما كان عليه السلف‏.‏

 

وسئل ـ عن رجل صلى بغير وضوء إماماً وهو لا يعلم، أو عليه نجاسة لا يعلم بها‏:‏ فهل صلاته جائزة أم لا ‏؟‏ وإن كانت صلاته جائزة‏:‏ فهل صلاة المأمومين خلفه تصح‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب‏:‏

أما المأموم إذا لم يعلم بحدث الإمام، أو النجاسة التي عليه حتي قضيت الصلاة، فلا إعادة عليه، عند الشافعي، وكذلك عند مالك وأحمد، إذا كان الإمام غير عالم‏.‏ ويعيد وحده إذا كان محدثاً‏.‏ وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين، فإنهم صلوا بالناس ثم رأوا الجنابة بعد الصلاة فأعادوا، ولم يأمروا الناس بالإعادة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/وَقَالَ شيخ الإِسلام‏:‏

 

فصل

في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام‏:‏ الناس فيه على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه لا ارتباط بينهما، وإن كل امرئ يصلي لنفسه، وفائدة الائتمام في تكثير الثواب بالجماعة، وهذا هو الغالب على أصل الشافعي، لكن قد عورض بمنعه اقتداء القارئ بالأمي، والرجل بالمرأة‏.‏ وإبطال صلاة المؤتم بمن لا صلاة له‏:‏ كالكافر، والمحدث‏.‏ وفي هذه المسائل كلام ليس هذا موضعه‏.‏ ومن الحجة فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة‏:‏ ‏(‏إن أحسنوا، فلكم، ولهم‏.‏ وإن أساؤوا فلكم وعليهم‏)‏‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنها منعقدة بصلاة الإمام، وفرع عليها مطلقاً، فكل خلل حصل في صلاة الإمام يسري إلى صلاة المأموم‏:‏ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإمام ضامن‏)‏‏.‏ وعلي هذا، فالمؤتم بالمحدث / ـ الناسي لحدثه ـ يعيد كما يعيد إمامه‏.‏ وهذا مذهب أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، اختارها أبو الخطاب‏.‏ حتي اختار بعض هؤلاء كمحمد بن الحسن‏:‏ ألا يأتم المتوضئ بالمتيمم، لنقص طهارته عنه‏.‏

والقول الثالث‏:‏ أنها منعقدة بصلاة الإمام، لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم العذر منهما، فأما مع العذر، فلا يسري النقص، فإذا كان الإمام يعتقد طهارته، فهو معذور في الإمامة، والمأموم معذور في الائتمام، وهذا قول مالك، وأحمد، وغيرهما‏.‏ وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة، وهو أوسط الأقوال كما ذكرنا في نفس صفة الإمام الناقص؛ أن حكمه مع الحاجة يخالف حكمه مع عدم الحاجة‏.‏ فحكم صلاته كحكم نفسه‏.‏

وعلي هذا ـ أيضاً ـ ينبني اقتداء المؤتم بإمام قد ترك ما يعتقده المأموم من فرائض الصلاة، إذا كان الإمام متأولا تأويلا يسوغ، كألا يتوضأ من خروج النجاسات، ولا من مس الذكر، ونحو ذلك‏.‏ فإن اعتقاد الإمام هنا صحة صلاته، كاعتقاده صحتها مع عدم العلم بالحدث، وأولي‏.‏ فإنه هناك تجب عليه الإعادة، وهذا أصل نافع ـ أيضاً‏.‏

ويدل على صحة هذا القول ما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يصلون / لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم‏)‏‏.‏ فهذا نص في أن الإمام إذا أخطأ كان درك خطئه عليه، لا على المأمومين‏.‏ فمن صلى معتقداً لطهارته وكان محدثاً أو جنباً أو كانت عليه نجاسة، وقلنا عليه الإعادة للنجاسة، كما يعيد من الحدث، فهذا الإمام مخطئ في هذا الاعتقاد، فيكون خطؤه عليه، فيعيد صلاته‏.‏ وأما المأمومون، فلهم هذه الصلاة، وليس عليهم من خطئه شيء، كما صرح به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا نص في إجزاء صلاتهم‏.‏ وكذلك لو ترك الإمام بعض فرائض الصلاة بتأويل أخطأ فيه عند المأموم‏:‏ مثل أن يمس ذكره ويصلي، أو يحتجم ويصلي، أو يترك قراءة البسملة، أو يصلي وعليه نجاسة لا يعفي عنها عند المأموم، ونحو ذلك‏.‏ فهذا الإمام أسوأ أحواله أن يكون مخطئا، إن لم يكن مصيباً، فتكون هذه الصلاة للمأموم، وليس عليه من خطأ إمامه شيء‏.‏

وكذلك روى أحمد وأبو داود عن عقبة بن عامر ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من أم الناس فأصاب الوقت، وأتم الصلاة فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئاً، فعليه ولا عليهم‏)‏ لكن لم يذكر أبو داود‏:‏ ‏(‏وأتم الصلاة‏)‏‏.‏ فهذا الانتقاص يفسره الحديث الأول أنه الخطأ، ومفهوم قوله‏:‏ ‏(‏وإن أخطأ فعليه ولا عليهم‏)‏‏:‏ أنه إذا تعمد لم يكن كذلك، ولاتفاق المسلمين على أن من يترك الأركان المتفق عليها لا تنبغي الصلاة خلفه‏.‏

/ وسئل ـ عن رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون‏؟‏

فأجاب‏:‏

إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه‏:‏ مثل كذبه أو ظلمه، أو جهله، أو بدعته، ونحو ذلك‏.‏ ويحبون الآخر لأنه أصلح في دينه منه‏.‏ مثل أن يكون أصدق وأعلم وأدين‏.‏ فإنه يجب أن يولي عليهم هذا الإمام الذي يحبونه، وليس لذلك الإمام الذي يكرهونه أن يؤمهم‏.‏ كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم‏:‏ رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، ورجل لا يأتي الصلاة إلا دباراً، ورجل اعتبد محررا‏)‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ عن أهل المذاهب الأربعة‏:‏ هل تصح صلاة بعضهم خلف بعض أم لا‏؟‏ وهل قال أحد مـن السلف إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض‏؟‏ ومن قال ذلك، فهل هو مبتدع أم لا‏؟‏ وإذا فعل الإمام ما يعتقد / أن صلاته معه صحيحة، والمأموم يعتقد خلاف ذلك‏.‏ مثل أن يكون الإمام تقيأ، أو رعف، أو احتجم، أو مس ذكره، أو مس النساء بشهوة أو بغير شهوة، أو قهقه في صلاته، أو أكل لحم الإبل، وصلى ولم يتوضأ، والمأموم يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة، أو لم يتشهد التشهد الآخر، أو لم يسلم من الصلاة، والمأموم يعتقد وجوب ذلك، فهل تصح صلاة المأموم والحال هذه‏؟‏ وإذا شرط في إمام المسجد أن يكون على مذهب معين، فكان غيره أعلم بالقرآن والسنة منه وولي‏:‏ فهل يجوز ذلك‏؟‏ وهل تصح الصلاة خلفه أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه‏.‏ نعم، تجوز صلاة بعضهم خلف بعض، كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من الأئمة الأربعة يصلي بعضهم خلف بعض، مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها‏.‏ ولم يقل أحد من السلف‏:‏ إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض‏.‏ ومن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال، مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وأئمتها‏.‏

وقد كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم‏:‏ منهم من يقرأ البسملة، ومنهم من لا يقرأها‏.‏ ومنهم من يجهر بها، ومنهم من لا يجهر بها‏.‏ وكان منهم من يقنت في الفجر، ومنهم من لا يقنت‏.‏ ومنهم / من يتوضأ من الحجامة والرعاف والقيء، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من مس الذكر، ومس النساء بشهوة، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من القهقهة في صلاته، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومنهم من يتوضأ من أكل لحم الإبل، ومنهم من لا يتوضأ من ذلك‏.‏ ومع هذا، فكان بعضهم يصلي خلف بعض‏:‏

مثل ما كان أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وغيرهم يصلون خلف أئمة أهل المدينة من المالكية، وإن كانوا لا يقرؤون البسملة لا سراً ولا جهراً‏.‏ وصلى أبو يوسف خلف الرشيد وقد احتجم‏.‏ وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، فصلى خلفه أبو يوسف ولم يعد‏.‏

وكـان أحمـد بن حنبـل يري الوضوء مـن الحجامة والرعاف، فقيل له‏:‏ فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ، تصلى خلفه‏؟‏ فقال‏:‏ كيف لا أصلى خلف سعيد بن المسيب، ومالك‏.‏

وبالجملة، فهذه المسائل لها صورتان‏:‏

إحداهما‏:‏ ألا يعرف المأموم أن إمامه فعل ما يبطل الصلاة، فهنا يصلي المأموم خلفه باتفاق السلف، والأئمة الأربعة، وغيرهم‏.‏ وليس في هذا خلاف متقدم، وإنما خالف بعض المتعصبين من المتأخرين، فزعم / أن الصلاة خلف الحنفي لا تصح، وإن أتي بالواجبات؛ لأنه أداها وهو لا يعتقد وجوبها، وقائل هذا القول إلى أن يستتاب كما يستتاب أهل البدع، أحوج منه إلى أن يعتقد بخلافه‏.‏ فإنه ما زال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه يصلي بعضهم ببعض‏.‏ وأكثر الأئمة لا يميزون بين المفروض والمسنون، بل يصلون الصلاة الشرعية‏.‏ ولو كان العلم بهذا واجباً لبطلت صلوات أكثر المسلمين، ولم يمكن الاحتياط‏.‏ فإن كثيراً من ذلك فيه نزاع، وأدلة ذلك خفية، وأكثر ما يمكن المتدين أن يحتاط من الخلاف، وهو لا يجزم بأحد القولين‏.‏ فإن كان الجزم بأحدهما واجباً فأكثر الخلق لا يمكنهم الجزم بذلك، وهذا القائل نفسه ليس معه إلا تقليد بعض الفقهاء، ولو طولب بأدلة شرعية تدل على صحة قول إمامه دون غيره لعجز عن ذلك؛ ولهذا لا يعتد بخلاف مثل هذا، فإنه ليس من أهل الاجتهاد‏.‏

الصورة الثانية‏:‏ أن يتيقن المأموم أن الإمام فعل ما لا يسوغ عنده‏:‏ مثل أن يمس ذكره، أو النساء لشهوة، أو يحتجم، أو يفتصد، أو يتقيأ‏.‏ ثم يصلي بلا وضوء، فهذه الصورة فيها نزاع مشهور‏.‏

فأحد القولين لا تصح صلاة المأموم؛ لأنه يعتقد بطلان صلاة إمامه، كما قال ذلك من قاله من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد‏.‏

/والقول الثاني‏:‏ تصح صلاة المأموم؛ وهو قول جمهور السلف، وهو مذهب مالك، وهو القول الآخر في مذهب الشافعي، وأحمد، بل وأبي حنيفة وأكثر نصوص أحمد على هذا‏.‏ وهذا هو الصواب؛ لما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يصلون لكم فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن أخطؤوا، فلكم وعليهم‏)‏‏.‏ فقد بين صلى الله عليه وسلم أن خطأ الإمام لا يتعدي إلى المأموم، ولان المأموم يعتقد أن ما فعله الإمام سائغ له، وأنه لا إثم عليه فيما فعل، فإنه مجتهد أو مقلد مجتهد، وهو يعلم أن هذا قد غفر اللّه له خطأه، فهو يعتقد صحة صلاته، وأنه لا يأثم إذا لم يعدها، بل لو حكم بمثل هذا لم يجز له نقض حكمه، بل كان ينفذه‏.‏ وإذا كان الإمام قد فعل باجتهاده، فلا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، والمأموم قد فعل ما وجب عليه كانت صلاة كل منهما صحيحة، وكان كل منهما قد أدي ما يجب عليه، وقد حصلت موافقة الإمام في الأفعال الظاهرة‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن المأموم يعتقد بطلان صلاة الإمام،خطأ منه، فإن المأموم يعتقد أن الإمام فعل ما وجب عليه، وأن اللّه قد غفر له ما أخطأ فيه، وألا تبطل صلاته لأجل ذلك‏.‏

ولو أخطأ الإمام والمأموم فسلم الإمام خطأ، واعتقد المأموم جواز / متابعته فسلم، كما سلم المسلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من اثنتين سهواً، مع علمهم بأنه إنما صلى ركعتين، وكما لو صلى خمسا سهواً

فصلوا خلفه خمسا، كما صلى الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم خمسا، فتابعوه، مع علمهم بأنه صلى خمسا؛ لاعتقادهم جواز ذلك، فإنه تصح صلاة المأموم في هذه الحال، فكيف إذا كان المخطئ هو الإمام وحده‏.‏ وقد اتفقوا كلهم على أن الإمام لو سلم خطأ، لم تبطل صلاة المأموم، إذا لم يتابعه، ولو صلى خمسا لم تبطل صلاة المأموم إذا لم يتابعه، فدل ذلك على أن ما فعله الإمام خطأ لا يلزم فيه بطلان صلاة المأموم‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رَحمه اللّه ‏:‏ هل تصح صلاة المأموم خلف من يخالف مذهبه ‏؟‏

فأجاب‏:‏

وأما صلاة الرجل خلف من يخالف مذهبه، فهذه تصح باتفاق الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والأئمة الأربعة، ولكن النزاع في صورتين‏:‏

إحداهما‏:‏ خلافها شاذ، وهو ما إذا أتي الإمام بالواجبات كما يعتقده / المأموم، لكن لا يعتقد وجوبها مثل التشهد الأخير إذا فعله من لم يعتقد وجوبه، والمأموم يعتقد وجوبه، فهذا فيه خلاف شاذ‏.‏ والصواب الذي عليه السلف وجمهور الخلف صحة الصلاة‏.‏

والمسألة الثانية‏:‏ فيها نزاع مشهور، إذا ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه مثل أن يترك قراءة البسملة سراً وجهراً، والمأموم يعتقد وجوبها‏.‏ أو مثل أن يترك الوضوء من مس الذكر، أو لمس النساء، أو أكل لحم الإبل، أو القهقهة، أو خروج النجاسات، أو النجاسة النادرة، والمأموم يري وجوب الوضوء من ذلك، فهذا فيه قولان‏.‏ أصحهما صحة صلاة المأموم، وهو مذهب مالك، وأصرح الروايتين عن أحمد في مثل هذه المسائل، وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي، بل هو المنصوص عنه‏.‏ فإنه كان يصلي خلف المالكية الذين لا يقرؤون البسملة، ومذهبه وجوب قراءتها‏.‏ والدليل على ذلك ما رواه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يصلون لكم فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن اخطؤوا، فلكم وعليهم‏)‏ فجعل خطأ الإمام عليه دون المأموم‏.‏

وهذه المسائل إن كان مذهب الإمام فيها هو الصواب، فلا نزاع، وإن كان مخطئاً فخطؤه مختص به، والمنازع يقول‏:‏ المأموم يعتقد بطلان صلاة إمامه، وليس كذلك، بل يعتقد أن الإمام يصلي / باجتهاد أو تقليد، إن أصاب، فله أجران، وإن أخطأ، فله أجر، وهو ينفذ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد، وهذا أعظم من اقتدائه به‏.‏ فإن كان المجتهد حكمه باطلا، لم يجز إنفاذ الباطل، ولو ترك الإمام الطهارة ناسياً لم يعد المأموم عند الجمهور، كما ثبت عن الخلفاء الراشدين، مع أن الناسي عليه إعادة الصلاة، والمتأول لا إعادة عليه‏.‏

فإذا صحت الصلاة خلف من عليه الإعادة، فلأن تصح خلف من لا إعادة عليه أولي‏.‏ والإمام يعيد إذا ذكر دون المأموم، ولم يصدر من الإمام ولا من المأموم تفريط؛ لأن الإمام لا يرجع عن اعتقاده بقوله‏.‏ بخلاف ما إذا رأي على الإمام نجاسة ولم يحذره منها، فإن المأموم هنا مفرط‏.‏ فإذا صلى يعيد؛ لأن ذلك لتفريطه، وأما الإمام، فلا يعيد في هذه الصورة في أصح قولي العلماء، كقول مالك، والشافعي في القديم، وأحمد في أصح الروايتين عنه‏.‏

وعلم المأموم بحال الإمام في صورة التأويل يقتضي أنه يعلم أنه مجتهد مغفور له خطؤه، فلا تكون صلاته باطلة، وهذا القول هو الصواب المقطوع به‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل‏:‏ هل يقلد الشافعي حنفياً، وعكس ذلك في الصلاة الوترية، وفي جمع المطر أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، نعم، يجوز للحنفي وغيره أن يقلد من يجوز الجمع من المطر، لا سيما وهذا مذهب جمهور العلماء، كمالك، والشافعي، وأحمد‏.‏

وقد كان عبد اللّه بن عمر يجمع مع ولاة الأمور بالمدينة إذا جمعوا في المطر‏.‏ وليس على أحد من الناس أن يقلد رجلا بعينه في كل ما يأمر به، وينهي عنه، ويستحبه إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وما زال المسلمون يستفتون علماء المسلمين فيقلدون تارة هذا، وتارة هذا‏.‏ فإذا كان المقلد يقلد في مسألة يراها أصلح في دينه، أو القول بها أرجح، أو نحو ذلك، جاز هذا باتفاق جماهير علماء المسلمين، لم يحرم ذلك لا أبو حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد‏.‏

وكذلك الوتر وغيره ينبغي للمأموم أن يتبع فيه إمامه‏.‏ فإن / قنت، قنت معه، وإن لم يقنت، لم يقنت، وإن صلى بثلاث ركعات موصولة، فعل ذلك، وإن فصل فصل ـ أيضاً‏.‏ ومن الناس من يختار للمأموم أن يصل إذا فصل إمامه، والأول أصح‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عما إذا أدرك مع الإمام بعض الصلاة وقام، ليأتي بما فاته، فائتم به آخرون، هل يجوز أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أدرك مع الإمام بعضا، وقام يأتي بما فاته، فائتم به آخرون‏:‏ جاز ذلك في أظهر قولي العلماء‏.‏

 وسئل عن إمام يصلي صلاة الفرض بالناس، ثم يصلي بعدها صلاة أخري ويقول‏:‏ هذه عن صلاة فاتتكم، هل يسوغ هذا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، ليس للإمام الراتب أن يعتاد أن يصلي بالناس الفريضة مرتين، فإن هذه بدعة مخالفة لسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، / وسنة خلفائه الراشدين، ولم يستحب ذلك أحد من أئمة المسلمين الأربعة، وغيرهم‏.‏ لا أبي حنيفة، ولا مالك، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل‏.‏ بل هم متفقون على أن الإمام إذا أعاد بأولئك المأمومين الصلاة مرتين دائماً أن هذا بدعة مكروهة، ومن فعل ذلك على وجه التقرب، كان ضالا‏.‏

وإنما تنازعوا في الإمام إذا صلى مرة ثانية بقوم آخرين، غير الأولين‏.‏

منهم من يجيز ذلك كالشافعي، وأحمد بن حنبل في إحدي الروايتين‏.‏ ومنهم من يحرم ذلك، كأبي حنيفة ومالك، وأحمد في الرواية الأخري عنه‏.‏

ومن عليه فوائت، فإنه يقضيها بحسب الإمكان، أما كون الإمام يعيد الصلاة دائماً مع الصلاة الحاضرة، وأن يصلوا خلفه، فهذا ليس بمشروع‏.‏ وإن قال‏:‏ إني أفعل ذلك لأجل ما عليهم من الفوائت‏.‏ وأقل ما في هذا أنه ذريعة إلى أن يتشبه به الأئمة، فتبقي به سنة، يربو عليها الصغير، وتغير بسببها شريعة الإسلام في البوادي، ومواضع الجهل‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/وَقَال شيخ الإسلام ـ قدس اللّه روحُه‏:‏

 فصل

وأما من أدي فرضه إماماً، أو مأموما، أو منفرداً‏:‏ فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه مثل أن يصلي الإمام مرتين‏؟‏ هذه فيها نزاع مشهور، وفيها ثلاث روايات عن أحمد‏:‏

إحداها‏:‏ أنه لا يجوز، وهي اختيار كثير من أصحابه، ومذهب أبي حنيفة، ومالك‏.‏

والثانية‏:‏ يجوز مطلقاً، وهي اختيار بعض أصحابه‏:‏ كالشيخ أبي محمد المقدسي، وهي مذهب الشافعي‏.‏

والثالثة‏:‏ يجوز عند الحاجة، كصلاة الخوف‏.‏ قال الشيخ‏:‏ وهو اختيار جدنا أبي البركات؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين، وصلى بطائفة وسلم، ثم صلى بطائفة أخرى وسلم‏.‏

/ومن جوز ذلك مطلقاً، احتج بحديث معاذ المعروف‏:‏ أنه كان يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينطلق فيؤم قومه‏.‏ وفي رواية‏:‏ فكانت الأولي فرضا له، والثانية نفلا‏.‏

والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة‏.‏ فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع‏.‏ كقوله‏:‏ ‏(‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه‏)‏‏.‏ وبأن الإمام ضامن، فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم، وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج، والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال، كما جاء مفسراً، وإلا، فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة، فيكون متنفلا خلف مفترض‏.‏ كما هو قول جماهير العلماء‏.‏ وقد دل على ذلك قوله في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏يكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها، فصلوا الصلاة لوقتها، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة‏)‏‏.‏

وأيضاً، فإنه صلى بمسجد الخَيف، فرأي رجلين لما يصليا، فقال‏:‏ ‏(‏ما منعكما أن تصليا معنا‏؟‏‏)‏ قالا‏:‏ قد صلينا في رحالنا، فقال‏:‏ ‏(‏إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة‏)‏‏.‏ وفي السنن أنه رأي رجلا يصلي وحده فقال‏:‏ ‏(‏ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏ فقد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث، وثبت ـ أيضاً ـ بالعكس‏.‏ فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو / النفل ليست بواجبة، والإمام ضامن، وإن كان متنفلا‏.‏

ومن هذا الباب‏:‏ صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين، فأظهر الأقوال جواز هذا كله، لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانيا إلا لحاجة، أو مصلحة، مثل أن يكون ليس هناك من يصلح للإمامة غيره، أو هو أحق الحاضرين بالإمامة؛ لكونه أعلمهم بكتاب اللّه وسنة رسوله، أو كانوا مستوين في العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم اللّه ورسوله، أو أقدمهم سنا‏.‏ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرأهم لكتاب اللّه، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنا‏)‏‏.‏ فقدم النبي صلى الله عليه وسلم بالفضيلة في العلم بالكتاب والسنة، فإن استووا في العلم، قدم بالسبق إلى العمل الصالح، وقدم السابق باختياره، وهو المهاجر على من سبق بخلق اللّه له، وهو الكبير السن‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهي اللّه عنه‏)‏‏.‏ فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها، فهو أقدمهم هجرة، فيقدم في الإمامة، فإذا حضر من هو أحق بالإمامة، وكان قد صلى /فرضه، فإنه يؤمهم، كما أم النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة بعد طائفة من أصحابه مرتين، وكما كان معاذ يصلي ثم يؤم قومه أهل قباء؛ لأنه كان أحقهم بالإمامة، وقد ادعي بعضهم أن حديث معاذ منسوخ، ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة، وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة لا يجوز دعوي نسخه بأمور محتملة للنسخ وعدم النسخ‏.‏ وهذا باب واسع قد وقع في بعضه كثير من الناس، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏

وكذلك الصلاة على الجنازة إذا صلى عليها الرجل إماما، ثم قدم آخرون، فله أن يصلي بالطائفة الثانية، إذا كان أحقهم بالإمامة، وله إذا صلى غيره على الجنازة مرة ثانية أن يعيدها معهم تبعاً، كما يعيد الفريضة تبعاً، مثل أن يصلي في بيته، ثم يأتي مسجداً فيه إمام راتب، فيصلي معهم‏.‏ فإن هذا مشروع في مذهب الإمام أحمد بلا نزاع، وكذلك مذهبه فيمن لم يصل على الجنازة فله أن يصلي عليها بعد غيره، وله أن يصلي على القبر إذ فاتته الصلاة‏.‏ هذا مذهب فقهاء الحديث قاطبة، كالشافعي وأحمد، وإسحاق، وغيرهم، ومالك لا يري الإعادة، وأبو حنيفة لا يراها إلا للولي‏.‏

وأما إذا صلى هو على الجنازة، ثم صلى عليها غيره‏:‏ فهل له أن يعيدها مع الطائفة الثانية‏؟‏ فيه وجهان في مذهب أحمد‏.‏ قيل‏:‏/ لا يعيدها‏.‏ قالوا‏:‏ لأن الثانية نفل، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها‏.‏ وقيل‏:‏ بل له أن يعيدها، وهو الصحيح‏.‏ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى على قبر منبوذ، صلى معه من كان صلى عليها أولا‏.‏ وإعادة صلاة الجنازة من جنس إعادة الفريضة، فتشرع حيث شرعها اللّه ورسوله‏.‏ وعلي هذا‏:‏ فهل يؤم على الجنازة مرتين‏؟‏ على روايتين‏.‏ والصحيح أن له ذلك‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عن رجل صلى مع الإمام، ثم حضر جماعة أخرى فصلى بهم إمامًا فهل يجوز ذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه المسألة هي مسألة اقتداء المفترض بالمتنفل فإن الإمام كان قد أدي فرضه، فإذا صلى بغيره إمامًا، فهذا جائز في مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه‏.‏ وفيها قول ثالث في مذهب أحمد‏:‏ أنه يجوز للحاجة، ولا يجوز لغير حاجة‏.‏ فإذا كان ذلك الإمام هو القارئ، وهو المستحق للإمامة دونهم، ففعل ذلك في مثل هذه الحال حسن‏.‏ والله أعلم‏.‏

/ وسئل عن إمام مسجدين‏.‏ هل يجوز الاقتداء به أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا أمكن أن يرتب في كل مسجد إمام راتب، فلا يصلح أن يرتب إمام في مسجدين، فإذا صلى إماما في موضعين، ففي صحة الصلاة الثانية لمن يؤدي فريضته خلاف بين العلماء‏.‏ فمذهب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدي الروايتين‏.‏ أن الفرض لا يسقط عن أهل المسجد الثاني‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عمن يصلي الفرض خلف من يصلي نفلا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

يجوز ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب الشافعي، وأحمد في إحدي الروايتين عنه‏.‏

/ وسئل شَيخ الإسْلام ـ رَحمه اللّه ـ عما يفعله الرجل شاكا في وجوبه، على طريق الاحتياط‏.‏ هل يأتم به المفترض‏؟‏

فأجاب‏:‏

قياس المذهب أنه يصح؛ لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب إذاً، كما قلنا في نية الإغماء، وإن لم نقل بوجوب الصوم‏.‏ كما قلنا فيمن شك في انتقاض وضوئه يتوضأ‏.‏

وكذلك صور الشك في وجوب طهارة أو صيام أو زكاة أو صلاة أو نسك أو كفارة، أو غير ذلك، بخلاف ما لو اعتقد الوجوب ثم تبين له عدمه، فإن هذه خرج فيها خلاف؛ لأنها في الحقيقة نفل لكنها في اعتقاده واجبة، والمشكوك فيها هي في قصده واجبة، والاعتقاد متردد‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن وجد جماعة يصلون الظهر، فأراد أن يقضي معهم الصبح‏.‏ فلما قام الإمام للركعة الثالثة، فارقه بالسلام، فهل تصح هذه الصلاة‏؟‏ وعلي أي مذهب تصح‏؟‏

فأجاب‏:‏

هذه الصلاة لا تصح في مذهب أبي حنيفة، ومالك وأحمد في إحدي الروايتين عنه‏.‏ وتصح في مذهب الشافعي، وأحمد في الرواية الأخري‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل عمن وجد الصلاة قائمة فنوى الائتمام، وظن أن إمامه زيد، فتبين أنه عمرو‏.‏ هل يضره ذلك‏؟‏ وكذلك لو ظن الإمام في المأموم مثل ذلك‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا كان مقصوده أن يصلي خلف إمام تلك الجماعة كائنا / من كان، وظن أنه زيد فتبين أنه عمرو صحت صلاته، كما لو اعتقد أنه أبيض فتبين أنه أسود، أو اعتقد أن عليه كساء فتبين أنه عباءة، ونحو ذلك من خطأ الظن الذي لا يقدح في الائتمام‏.‏

وإن كان مقصوده أن يصلي خلف زيد، ولو علم أنه عمرو لم يصل خلفه، وكان عمرو، فهذا لم يأتم به‏.‏ وإنما الأعمال بالنيات‏.‏

وهل هو بمنزلة من صلى بلا ائتمام أو تبطل صلاته‏؟‏ فيه نزاع، كما لو كانت صلاة الإمام باطلة والمأموم لا يعلم‏.‏ فلا يضر المؤتم الجهل بعين الإمام إذا كان مقصوده أن يصلي خلف الإمام الذي يصلي بتلك الجماعة، وكذلك الإمام لم يضره الجهل بعين المأمومين، بل إذا نوي الصلاة بمن خلفه جاز‏.‏

وقد قيل‏:‏ إنه إذا عين فأخطأ بطلت صلاته مطلقاً‏.‏ والصواب‏:‏ الفرق بين تعيينه بالقصد، بحيث يكون قصده ألا يصلي إلا خلفه، وبين تعيين الظن بحيث يكون قصده الصلاة خلف الإمام مطلقاً، لكن ظن أنه زيد‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رَحمه اللّه ـ عمن صلى خلف الصف منفرداً‏.‏ هل تصح صلاته أم لا‏؟‏ والأحاديث الواردة في ذلك هل هي صحيحة أم لا‏؟‏ والأئمة القائلون بهذا من غير الأئمة الأربعة؛ كحماد بن أبي سليمان، وابن المبارك، وسفيان الثوري، والأوزاعي‏.‏ قد قال عنهم رجل ـ أعني عن هؤلاء الأئمة المذكورين ـ‏:‏ هؤلاء لا يلتفت إليهم، فصاحب هذا الكلام ما حكمه‏؟‏ وهل يسوغ تقليد هؤلاء الأئمة لمن يجوز له التقليد‏؟‏ كما يجوز تقليد الأئمة الأربعة أم لا ‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، من قول العلماء أنه لا تصح صلاة المنفرد خلف الصف؛ لأن في ذلك حديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر المصلي خلف الصف بالإعادة، وقال‏:‏ ‏(‏لا صلاة لفذ خلف الصف‏)‏‏.‏ وقد صحح الحديثين غير واحد من أئمة الحديث، وأسانيدهما مما تقوم بهما الحجة، بل المخالفون لهما يعتمدون في كثير من المسائل على ما هو أضعف إسناداً منهما، وليس فيهما ما يخالف الأصول، بل ما فيهما هو مقتضي النصوص المشهورة، والأصول المقررة، فإن صلاة الجماعة سميت جماعة / لاجتماع المصلين في الفعل مكانا وزماناً، فإذا أخلوا بالاجتماع المكاني أو الزماني مثل أن يتقدموا أو بعضهم على الإمام، أو يتخلفوا عنه تخلفاً كثيراً لغير عذر، كان ذلك منهياً عنه باتفاق الأئمة، وكذلك لو كانوا مفترقين غير منتظمين، مثل أن يكون هذا خلف هذا، وهذا خلف هذا، كان هذا من أعظم الأمور المنكرة، بل قد أمروا بالاصطفاف، بل أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بتقويم الصفوف وتعديلها، وتراص الصفوف، وسد الخُلَلَ، وسد الأول فالأول، كل ذلك مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه، بحسب الإمكان‏.‏ ولو لم يكن الاصطفاف واجبا، لجاز أن يقف واحد خلف واحد، وهلم جرا‏.‏ وهذا مما يعلم كل أحد علما عاماً أن هذه ليست صلاة المسلمين‏.‏ ولو كان هذا مما يجوز لفعله المسلمون ولو مرة، بل وكذلك إذا جعلوا الصف غير منتظم‏:‏ مثل أن يتقدم هذا على هذا، ويتأخر هذا عن هذا، لكان ذلك شيئاً قد علم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، والنهي يقتضي التحريم، بل إذا صلوا قدام الإمام، كان أحسن من مثل هذا‏.‏

فإذا كان الجمهور لا يصححون الصلاة قدام الإمام، إما مطلقاً، وإما لغير عذر، فكيف تصح الصلاة بدون الاصطفاف‏.‏ فقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف، وأن صلاة المنفرد لا تصح، كما جاء به هذان الحديثان، ومن خالف ذلك من العلماء، فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة / من وجه يثق به، بل قد يكون لم يسمعها، وقد يكون ظن أن الحديث ضعيف، كما ذكر ذلك بعضهم‏.‏

والذين عارضوه احتجوا بصحة صلاة المرأة منفردة، كما ثبت في الصحيح‏:‏ أن أنسا واليتيم صفا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وصفت العجوز خلفهما‏.‏ وقد اتفق العلماء على صحة وقوفها منفردة إذا لم يكن في الجماعة امرأة غيرها، كما جاءت به السنة‏.‏ واحتجوا ـ أيضاًـ بوقوف الإمام منفرداً‏.‏ واحتجوا بحديث أبي بكرة لما ركع دون الصف، ثم دخل في الصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏زادك اللّه حرصا، ولا تعد‏)‏‏.‏ وهذه حجة ضعيفة لا تقاوم حجة النهي عن ذلك، وذلك من وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ أن وقوف المرأة خلف صف الرجال سنة مأمور بها، ولو وقفت في صف الرجال، لكان ذلك مكروها‏.‏ وهل تبطل صلاة من يحاذيها ‏؟‏ فيه قولان للعلماء في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

أحدهما‏:‏ تبطل، كقول أبي حنيفة، وهو اختيار أبي بكر وأبي حفص‏.‏ من أصحاب أحمد‏.‏

والثاني‏:‏ لا تبطل‏.‏ كقول مالك، والشافعي، وهو قول ابن/ حامد والقاضي، وغيرهما، مع تنازعهم في الرجل الواقف معها‏:‏ هل يكون فذا أم لا ‏؟‏ والمنصوص عن أحمد بطلان صلاة من يليها في الموقف‏.‏

وأما وقوف الرجل وحده خلف الصف فمكروه، وترك للسنة باتفاقهم، فكيف يقاس المنهي بالمأمور به، وكذلك وقوف الإمام أمام الصف هو السنة‏.‏ فكيف يقاس المأمور به بالمنهي عنه‏؟‏ والقياس الصحيح إنما هو قياس المسكوت على المنصوص، أما قياس المنصوص على منصوص يخالفه، فهو باطل باتفاق العلماء، كقياس الربا على البيع، وقد أحل اللّه البيع وحرم الربا‏.‏

والثاني‏:‏ أن المرأة وقفت خلف الصف؛ لأنه لم يكن لها من تصافه، ولم يمكنها مصافة الرجل، ولهذا لو كان معها في الصلاة امرأة، لكان من حقها أن تقوم معها، وكان حكمها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال‏.‏

ونظير ذلك ألا يجد الرجل موقفاً إلا خلف الصف، فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد، وإلا ظهر صحة صلاته في هذا الموضع‏:‏ لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز‏.‏ وطرد هذا صحة صلاة المتقدم على الإمام للحاجة، كقول طائفة، وهو قول في مذهب أحمد‏.‏

/وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك، يسقط بالعجز، فكذلك الاصطفاف وترك التقدم‏.‏ وطرد هذا بقية مسائل الصفوف، كمسألة من صلى ولم ير الإمام، ولا من وراءه مع سماعه للتكبير وغير ذلك، وأما الإمام ؛ فإنما قُدِّم ليراه المأمومون فيأتمون به، وهذا منتف في المأموم‏.‏

وأما حديث أبي بكرة؛ فليس فيه أنه صلى منفرداً خلف الصف قبل رفع الإمام رأسه من الركوع فقد أدرك من الاصطفاف المأمور به ما يكون به مدركا للركعة، فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه في القيام، فإن هذا جائز باتفاق الأئمة، وحديث أبي بكرة فيه النهي بقوله‏:‏ ‏(‏ولا تعد‏)‏ وليس فيه أنه أمره بإعادة الركعة، كما في حديث الفذ‏.‏ فإنه أمره بإعادة الصلاة، وهذا مبين مفسر، وذلك مجمل حتي لو قدر أنه صرح في حديث أبي بكرة بأنه دخل في الصف بعد اعتدال الإمام ـ كما يجوز ذلك في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره ـ لكان سائغاً في مثل هذا دون ما أمر فيه بالإعادة، فهذا له وجه، وهذا له وجه‏.‏

وأما التفريق بين العالم والجاهل، كقول في مذهب أحمد، فلا يسوغ، فإن المصلي المنفرد لم يكن عالما بالنهي، وقد أمره بالإعادة كما أمر الأعرابي المسيء في صلاته بالإعادة‏.‏

/وأما الأئمة المذكورون‏:‏ فمن سادات أئمة الإسلام‏.‏ فإن الثوري إمام أهل العراق، وهو عند أكثرهم أجل من أقرانه‏:‏ كابن أبي ليلي، والحسن بن صالح بن حي، وأبي حنيفة، وغيره، وله مذهب باق إلى اليوم بأرض خراسان‏.‏ والأوزاعي إمام أهل الشام، وما زالوا على مذهبه إلى المائة الرابعة، بل أهل المغرب كانوا على مذهبه قبل أن يدخل إليهم مذهب مالك‏.‏ وحماد بن أبي سليمان‏:‏ هو شيخ أبي حنيفة، ومع هذا، فهذا القول هو قول أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهما، ـ ومذهبه باق إلى اليوم ـ وهو مذهب داود بن على وأصحابه، ومذهبهم باق إلى اليوم، فلم يجمع الناس اليوم على خلاف هذا القول، بل القائلون به كثير في المشرق والمغرب‏.‏

وليس في الكتاب والسنة فرق في الأئمة المجتهدين بين شخص وشخص، فمالك والليث بن سعد، والأوزاعي، والثوري، هؤلاء أئمة في زمانهم، وتقليد كل منهم كتقليد الآخر، لا يقول مسلم‏:‏ إنه يجوز تقليد هذا دون هذا، ولكن من منع من تقليد أحد هؤلاء في زماننا، فإنما يمنعه لأحد شيئين‏:‏

أحدهما‏:‏ اعتقاده أنه لم يبق من يعرف مذاهبهم، وتقليد الميت فيه نزاع مشهور، فمن منعه قال‏:‏ هؤلاء موتي، ومن سوغه قال‏:‏ لابد أن يكون في الأحياء من يعرف قول الميت‏.‏

/والثاني‏:‏ أن يقول‏:‏ الإجماع اليوم قد انعقد على خلاف هذا القول‏.‏ وينبني ذلك على مسألة معروفة في أصول الفقه‏.‏ وهي‏:‏ أن الصحابة مثلاً أو غيرهم من أهل الأعصار إذا اختلفوا في مسألة على قولين، ثم أجمع التابعون أو أهل العصر الثاني على أحدهما، فهل يكون هذا إجماعًا يرفع ذلك الخلاف‏؟‏ وفي المسألة نزاع مشهور في مذهب أحمد، وغيره من العلماء‏.‏ فمن قال‏:‏ إن مع إجماع أهل العصر الثاني لا يسوغ الأخذ بالقول الآخر، واعتقد أن أهل العصر أجمعوا على ذلك يركب من هذين الاعتقادين المنع‏.‏

ومن علم أن الخلاف القديم حكمه باق؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، فإنه يسوغ الذهاب إلى القول الآخر للمجتهد الذي وافق اجتهاده‏.‏

وأما التقليد فينبني على مسـألة تقليد الميت، وفيها قولان مشهوران ـ أيضاً ـ في مذهب الشافعي، وأحمد وغيرهما‏.‏

وأما إذا كان القول الذي يقول به هؤلاء الأئمة أو غيرهم قد قال به بعض العلماء الباقية مذاهبهم، فلا ريب أن قوله مؤيد بموافقة هؤلاء ويعتضد به، ويقابل بهؤلاء من خالفهم من أقرانهم‏.‏ فيقابل بالثوري والأوزاعي وأبا حنيفة ومالك؛ إذ الأمة متفقة على أنه إذا اختلف مالك / والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة، لم يجز أن يقال‏:‏ قول هذا هو الصواب دون هذا إلا بحجة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏